تاريخ المرأة كفاح طويل.
المرأة هي نصف المجتمع، بل هي الخلية الأساسية في المجتمع، فلا يمكن لأي مجتمع أيا كان أن يقوم دون المرأة.
والمرأة كرمها الله عز وجل لما كرم آدم عليه السلام حين أمر الملائكة بالسجود له، إذ لم يمر على خلق أبينا آدم عليه السلام إلا قليلا حتى خلق الله من نفسه زوجة يسكن إليها وتسكن إليه و تؤنس وحدته وتذهب وحشته وتعينه على أمر دينه ودنياه، فيكثر بفضل وجودهما نسلهما في هذه الحياة الدنيا، وتعمر الأرض جيلا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فأُمنا حواء عليها السلام أول ما خُلقت كما جاء في الأثر خُلقت من ضلع أبينا آدم عليه السلام الأيسر وسُميت حواء لأنها خُلقت من ضلع حي، في أروع صورة وأجمل هيئة، كما خلق بعلها آدم في أحسن تقويم وأبهى صورة وأحسنها، حتى جاء في الأثر:< أوتيت سارة شطر حسن أمها حواء وأوتي يوسف شطر الحسن >، أي أنه أوتي نصف حسن أبيه آدم كما أوتيت سارة نصف جمال أمها حواء.
فالرجل من المرأة والمرأة من الرجل، وهي لباسه كما هو لباسها، ولا يستطيع الرجل مهما كان أن يستغني عن المرأة، كما أن المرأة مهما كانت لا تستطيع الإستغناء عن الرجل، وهذه سنة الله في خلقه وفطرته التي فطر عليها البشر، وصدق الله العظيم حين قال في محكم تنزيله:< والله خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة >.
فالرابط الأساسي بين المرأة والرجل يتمثل في السكن والطمأنينة وراحة البال وهناء النفس، حيث ألهم الله قلبي الزوجين مودة ورحمة، ويا لهما من كلمتين رائعتين، فالمودة أشمل و أسمى من المحبة، إذ أنها باقية راسخة في القلب أما المحبة مؤقتة تزول بزوال المال أو الجمال أو المنفعة الذاتية، وأما الرحمة فيالها من صفة إذ أن مستقرها القلب ومبعثها الوجدان.
المرأة هي الأم أو الأخت أو البنت أو الزوجة، لا تتعدى هذه الصفات النبيلة ولا تتزحزح عن هذه المكانة الشريفة، ولا يجب علينا نحن معشر الرجال أن نراها إلا من هذه الزوايا الأربعة، ومن ينظر إلى المرأة بعين غير هذه الصفات، ويراها من عين غير هذه الزوايا الأربعة شط شططا بعيدا وخرج عن حدود العدل والإنصاف، وتعدى حدود الفطرة التي فطر الله عليها بني آدم رجالا ونساءً قال تعالى في محكم تنزيله:< صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون >.
فقد امتهنت كرامة المرأة في القرون السالفة أحقابا طوالا، ومازالت كرامتها تمتهن امتهانا فاضحا وجليًا في عدة دول وخاصة دول أوربا و أمريكا التي تتغنى بالتحضر وتتشدق بالتمدن.
فالرجل اليوم لم يعد ينظر إلى المرأة من باب الأمومة ولا البنوة ولا الأخوة ولا من باب الزوجة الإنسانة ورفيقة الحياة، بل أصبح يراها متاعا خاصا به وشيئا من ممتلكاته الخاصة به كباقي ممتلكاته، تكون في أول الأمر نفيسة ذات قيمة يلهو بها هنيهة ثم يضعها جانبا مع باقي تحفاته وأشياءه الماضية ويهملها إهمالا . وهذا بسبب تغير نظرة المجتمعات إلى حقيقة وجود المرأة وسلخ كيانها لأن المجتمعات في حد ذاتها حادت عن طريق التوحيد وحرفت ما أنزل الله من الحق، فتسلط الرجل على المرأة تسلطا مطلقا، معتدا بقوته سواء الجسمية أو الفكرية، ومعتمدا على ما أعطته هذه المجتمعات المنحرفة من نفوذ سلطة الواسع حتى أصبح يرى المرأة شيئا ملكا له خاصا به دون غيره، ولا تملك حتى الحق على نفسها، ينظر إليها نظرة دونية من باب الاستخفاف و الاستعلاء فلا رأي لها ولا دور ولا مكانة في مجتمعه، يلهو بها متى يشاء و يتركها متى يشاء ويعطيها حق الحياة إذا رضي عنها، ويسلب منها هذا الحق متى سخط عليها، فأهينت كرامتها وجرحت في كبريائها وأصبحت تباع وتشترى في سوق النخاسين. فالغني وذو الجاه و السلطان يفوز من هذه السوق بأجمل الجميلات وأفتن الفاتنات ليتمتع بجمالها الساحر وأنوثتها الصارخة حينا، أو يختار فتاة قوية من القويات ليستغلها في أشق الأعمال بقصره المشيد فتتحمل من العناء و الوصب ما لا تطيقه الجبال، حتى إذا فترت قوتها وانهارت صحتها و ضعف جسمها رماها إلى الشارع لتعيش حياة أقسى من حياتها السالفة.
المرأة إنسان له عقل وقلب وفكر ووجدان ومجموعة من الأحاسيس الرقيقة، فقد جاءت كل الأديان السماوية بالتوحيد ونبذ الشرك و الظلم والاستعباد والعدوان، وأعطت للمرأة مكانة راقية سامية تليق بآدميتها، ونظرت إليها هذه الأديان نظرة احترام وإجلال وتقدير، لأنها ترى في المرأة ذلك المخلوق اللطيف الرقيق الذي يلعب دورا عظيما ويؤدي رسالة سامية في هذه الحياة الدنيا بجنب شقيقها الرجل.
فهذه أمنا هاجر عليها السلام ضربت مثلا عاليا في قوة الإيمان بالله والتقوى والورع واليقين، فلما تركها زوجها إبراهيم الخليل عليه السلام هي وابنها الرضيع إسماعيل عليه السلام بواد غير ذي زرع، لا إنس ولا طير ولا شجر قالت له: ألله أمرك بهذا يا نبي الله ؟ قال إبراهيم عليه السلام : أجل يا هاجر، قالت بكل إيمان وصدق وثبات ويقين: اذهب فالله لا يضيعنا حتى أصبحت أعمالها الجليلة التي قامت بها إيمانا واحتسابا لله عز وجل مشعرا من مشاعر الله في الحج الأكبر، فهذا زمزم يتفجر من تحتها بأمر جبريل عليه السلام ليبقى عين معينا سائغا للشاربين دواء لكل داء كما جاء في الأثر ماء زمزم لما شرب له، والسعي بين الصفا والمروة من أركان الحج التي خلدت أعمالها الجليلة لما فيها من الإخلاص والمحبة لله قال الله تعالى : < إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم >. وهاهي تدفع بفلذة كبدها الوحيد وتقول له امتثل لأمر الله واصبر يا إسماعيل.
وهذه أم موسى امرأة عمران عليهما السلام يوحي إليها الله تعالى ويبث في روعها أن تلقي بفلذة كبدها موسى عليه السلام في اليم حتى ينجو من شر فرعون وكيده عليه اللعنة، ويربط الله على قلبها المؤمن ويلهمها الشجاعة و الصبر والسلوان، فتأتمر بأمر الله وتجعله في التابوت وتشده بحبل طويل وتلقيه في اليم، ويشاء الله أن ينقطع الحبل وتقذف الأمواج بالتابوت إلى حافة قصر فرعون فتلتقطه الجواري ويأخذنه إلى زوج فرعون آسيا عليها السلام فما أن تقع عيناها على موسى حتى تحن عليه وتحبه حبا جما وتتبناه وتدافع عنه صغيرا وكبيرا، وتؤمن برسالته لما اختاره الله رسولا، وتكفر بفرعون وأفعاله وتقف في وجهه بكل قوة فيعذبها عذابا شديدا فيشتد إيمانها بالله وتناجيه قائلة: < ...ربي ابني لي عندك قصرا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين >.
وهذه المرأة الصالحة حنا بنت عمران عليها السلام تذر ما في بطنها خالصا لعبادة الله عز وجل وخدمة بيته، وتضع مريم عليها السلام وتعيذها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم، فكانت مريم وابنها المسيح عليهما السلام آية للعالمين ومثلا للإيمان الصادق والتقوى الحقة والورع التام.
وهذه بلقيس ملكة سبأ أعطاها الله من الملك والحكمة وحسن التدبير وقوة الشخصية ما جعلها تترأس قومها وتقوم على شؤؤنهم ويذيع صيتها في الأقطار وتهابها الملوك. فيبعث لها الملك سليمان ابن داوود النبي عليهما السلام برسالة الهدهد ويطلب منها توحيد الله وإتباع دينه الحنيف، وهاهي الملكة الحكيمة تعقد اجتماعا طارئا مع كبار قادة الجيش و وزرائها وحكمائها وتشاورهم في أمر الرسالة فيقولون لها:< نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين> فقالت بعد ترو ونظر: <...إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون >.
وأرادت الملكة بقوة دهائها وحسن تدبيرها أن تجس نبض هذا الملك وتمحص شخصيته وتتأكد من مبادئه ورسالته التي يدعو إليها، فأرسلت إليه هدية ثمينة في وفد مهاب لا يستهان به، فرفض الملك النبي عليه السلام هديتها وردها إليها ردا جميلا يتضمن في طياته الوعيد. ولما مثلت بين يدي الملك سليمان عليه السلام أتاه الذي عنده علم من الكتاب بعرشها قبل أن يرتد إليه طرفه، سألها سليمان عليه السلام ليختبر ذكاءها وغرورها: أهكذا عرشك؟ أجابت بكل بساطة وكلها ثقة بنفسها: كأنه هو. ولما دخلت الصرح اندهشت وتعجبت وحسبته لجة وكشفت عن ساقيها حتى لا تتبلل أطرافها فستانها بالماء، فقال لها سليمان عليه السلام: <إنه صرح ممرد بقوارير. قالت: رب إني ظلمت نفسي، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين>.
وهذه أمنا خديجة رضي الله عنها تقف إلى جنب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأول من تؤمن برسالته وتدافع عنه وتشد على يده وتآزره حتى يتوفاها الله عام الحزن راضية مرضية.
وهذه سمية أم عمار زوج ياسر أول شهيدة في الإسلام، وهذه السيدة عائشة أم المؤمنين تحفظ عشرات آلاف الأحاديث النبوية الشريفة وكانت مقصدا لكبار الصحابة وقبلة لأئمة أجلاء أخذوا عنها آلاف الأحاديث الصحيحة.
وهذه الخنساء بنت عمرو بن الشريد تقدم أولادها الأربعة في معركة القادسية وتحثهم على الجهاد في سبيل الله وطلب الشهادة فينالوها فتحمد الله وتدعوه أن يجمعها وإياهم في مستقر رحمته.
< إن كفاح المرأة استشهاد طويل عبر الدهور المتدحرجة> كما تقول الأديبة الأريبة الكاتبة اللبنانية مي زيادة. وعلى المرء أن ينظر دوما ودائما إلى فضائل المرأة لا إلى مساويها فقط وأن لا يصيد في الماء العكر، وأن يمد لها دوما وأبدا يد العون والمساعدة ويشد على يدها حتى تصبح عضوا فعالا في المجتمع وتقوم بدورها فيه كما ينبغي في كل الميادين وجميع المجالات بكل فروع الاختصاصات، فالإسلام دين الحق أعطاها هذه الحقوق تامة غير منقوصة وأوصى بها خيرا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
إن الغرب امتهنها امتهانا فاضحا وجعل منها سلعة رخيصة تباع في الأسواق وتشترى وكلما تكدست هذه السلعة ألقوا بها في غياهب البحر وجعلوها في أرشيف التجاهل والنسيان